الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن
.سورة الذاريات: نزولها: مكية عدد آياتها: ستون.. آية عدد كلماتها: ثلاثمائة وستون.. كلمة.عدد حروفها: ألف ومائتان وسبعة وسبعون حرفا.مناسبتها لما قبلها:ذكرت سورة ق موقف المشركين ومقولاتهم المتكررة للبعث، كما ذكرت مع هذه المقولات من آيات اللّه ومن دلائل قدرته، ما يكشف عن ضلال هذه المقولات، وانحراف هذا الموقف.. ثم ختمت السورة بتخلية النبيّ بين المشركين المعاندين، وبين ما ركبوا من ضلال.ثم تجيء سورة الذاريات، لتلقى هؤلاء المشركين المعاندين، بحديث مجدّد عن البعث، والحساب والجزاء، ولكن لا تلقاهم لقاء مواجها لهم وحدهم، بل ضمن حديث عام مطلق، موجّه إلى الناس جميعا.. فإن شاءوا استمعوا إليه، وكان لهم أن ينتفعوا به، وإن شاءوا مضوا على ما هم عليه من إعراض ونفور! وذلك ما سنراه في مطلع هذه السورة الكريمة.بسم اللّه الرحمن الرحيم..تفسير الآيات (1- 14): {وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)}.التفسير:قوله تعالى: {وَالذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً فَالْجارِياتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً}.هذه أربعة أشياء أقسم بها اللّه سبحانه وتعالى بها، في نسق واحد.. الذاريات، فالحاملات، فالجاريات، فالمقسّمات.وقد اختلف في هذه الأشياء المقسم بها.. أهي شيء واحد تعددت صفاته وآثاره؟ أم هي أشياء متعددة، لكل شيء منها صفته وأثره؟والرأى الراجح في هذه الآراء، هو أنها أربعة أشياء.. لكل شيء ذاتيته ووظيفته.فالذاريات: الرياح، التي تذرو التراب، والدخان، كما تذرو بخار الماء، وتدفعه أمامها، وتعلو به إلى طبقات الجوّ العليا، حتى يتجمع، وبصير سحابا.والحاملات: هي السحب، المحملة بالماء.والجاريات: هي السفن التي تجرى فوق الماء.والمقسّمات: هي الملائكة التي تتقاسم العمل بأمر اللّه، في تدبير شئون الناس.وهذا الرأى يعضّده حديث ينسب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، كما يسند حمل هذا الحديث إلى عمر بن الخطاب، رضى اللّه عنه، وقد سأله ابن الكوّاء عن حقيقة هذه المسميات، فأجابه عمر- رضى اللّه- على نحو هذه الإجابة، وفى كلّ واحدة منها يقول عمر: ولولا أنى سمعت رسول اللّه يقولها ما قلتها.وعلى هذا تكون هذه الآيات قد تضمنت أربعة أقسام، مرتبة بهذا الترتيب المتعاقب.أما الكلمات: ذروا، ووقرا، ويسرا، وأمرا، فالرأى الذي نراه- واللّه أعلم- أنها أحوال متلبسة بهذه الأشياء التي أقسم اللّه سبحانه وتعالى بها، وأن اللّه سبحانه وتعالى أقسم بها في تلك الحال المتلبسة بها.. فهذه الحال هي التي تجعل لهذه الأشياء شأنا وقدرا، ولو أنها تجردت من هذه الحال، أو لبست حالا أخرى، لما كان لها هذا الشرف العظيم، بأن أقسم اللّه بها، فإن في قسم اللّه سبحانه وتعالى بالشيء تكريما له، ورفعا لقدره، وتنويها لمقامه بين الأشياء.فالذاريات ذروا: هي الرياح في حال هبوبها، وقدرتها على حمل بخار الماه والصعود به إلى طبقات الجوّ العليا، ولو أنها كانت أنساما رقيقة مريضة، لما أثارت الأمواج، ولما تحرك من صدر البحار بخار، ولو كان هناك بخار لما استطاعت حمله، والارتفاع به إلى حيث يصير سحابا..فذروا، مصدر بمعنى اسم الفاعل، والتقدير: والذاريات ذارية، أي حاملة ما يذرى.. وقد تكون الرياح وليس في كيانها شيء تذروه معها.أما هذه الرياح، فهى حاملة ما تذروه، ولهذا سميت ذاريات.والحاملات وقرا: هي السحب الموقرة، أي الحملة بالماء، المثقلة به، وتوشك أن تلده، كما تلد الحوامل المثقلات حملهن.والجاريات يسرا: هي السفن، في حال من اليسر، مواتية لسيرها في ريح رخاء، لا عاصفة، ولا هامدة.والمقسّمات أمرا، هي الملائكة في حال حملها لما تؤمر به.وننظر في هذه الأقسام على هذا الوجه، فنجدها هكذا: فالرياح ذارية، والسحب موقرة، والسفن ميسّرّا لها الجري، فالملائكة مأمورة بما تقسّمه في الناس من أرزاق وأرزاء.فالرياح، والسحب، والسفن، والملائكة، هي في أحوال لها فيها وجود عامل مؤثر في حياة الناس.. وفى قسم اللّه سبحانه وتعالى بها وهى متلبسة بأحوالها تلك- دعوة إلى الناس أن يلتفتوا إليها، وأن يروا آثار رحمة اللّه بهم فيها.فلو شاء اللّه لسكنت الريح، فلم تتخلق السحب، ولم تجر السفن، ولما كان للملائكة عمل على هذه الأرض، إذ لا حياة فيها مع فقدان الماء، الذي يقول سبحانه وتعالى فيه: {وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}.وهذا- واللّه أعلم- هو السرّ في هذا الترتيب المتعاقب بين هذه الأشياء.. فكان أولها الرياح، التي تتخلق منها السحب، التي هي المصدر الوحيد للماء العذب الذي تفيض به الأنهار وتتفجر منه العيون، ثم هي التي تجرى بها السّفن محملة بالناس والمتاع.. ثم هي التي جعلت الملائكة عملا في حياة الناس، بعد أن كان للناس حياة في الأرض، بالماء الذي انزل من السحب، والذي تخلّق بفعل الرياح.قوله تعالى: {إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ}.هو المقسم عليه بهذه الأقسام الأربعة، وهو ما يسمّى بجواب القسم.والآيتان إخبار من اللّه سبحانه وتعالى بأن ما يوعد به الناس من البعث من قبورهم بعد الموت، هو وعد صادق، لا شك فيه، وأن {الدِّينَ} وهو الدينونة والجزاء، واقع لا محالة.وفى الإخبار عن الموعود به بأنه صادق، دون القول بأنه {صدق} إذ الصدق وصف للخبر، والصادق، وصف المخبر به- في هذا إشارة إلى أن هذا الوعد ذاتىّ، وأنه هو ذاته الصادق الذي ينطق بالصدق.وليست أخبار اللّه سبحانه وتعالى- وهى الحق المطلق- بالتي تحتاج إلى توكيد تحققها بقسم أو غيره، ولكنّ أهل الضلال والعناد، يشكوّن في نسبة هذه الأخبار إلى اللّه، كما أنهم لا يرتفعون بقدر اللّه وجلاله كثيرا عن المستوي البشرى.. ففى تأكيد الخبر لهم بالقسم، دلالة على تكذيبهم لرسول اللّه، ثم سوء ظنهم باللّه.قوله تعالى: {وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}.الحبك: جمع حبيكة، والحبيكة: ما يكون في طرف الرداء من طرز ونقوش.والسماء ذات الحبك: أي السماء المطرزة المزينة بالكواكب والنجوم.ويؤفك: أي يصرف، وهو من الإفك، وهو افتراء الكذب الذي يصرف به صاحبه عن الحق، وما وراء الحق من خير وقوله تعالى: {وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ} قسم، والمقسم عليه هوقوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} والخطاب للناس جميعا، والقول المختلف، هو اختلاف مقولات الناس في أمر البعث، والجزاء.. فهم بين مؤمنين مصدقين بما وعدوا به، وبين مكذّبين بهذا الوعد، منكرين له.وقوله تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} أي يصرف عن وجه الحق في أمر البعث والجزاء، {مَنْ أُفِكَ} أي من صرف عن الحقّ بطبعه، وما غلب عليه من شقوة، فهو وإن كان قد أعرض عن الإيمان باللّه، والتصديق بالبعث والجزاء- فإن ذلك حكم سابق فيه، وقضاء قضى عليه به، لأن اللّه سبحانه قد علم ما يكون من قبل أن يكون.. وقد علم سبحانه أنه ذو طبيعة لا تقبل الحق، ولا تستجيب لداعيه، فصرفه اللّه عن الحق، كما يقول سبحانه: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [127: التوبة] وقوله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ}.الخراصون: جمع خرّاص، وهو الذي يخرص الأشياء وبقدرها بحدسه وظنّه، دون أن يستند في ذلك إلى علم محقق، كما يفعل الذي يخرص ما على النخل من تمر، وما يعطى الزرع من حبّ.فالخراصون، هم الكذابون، الذي يقولون بغير علم.وقوله تعالى: {قُتِلَ} هو دعاء عليهم، ورمى لهم باللعنة والطرد من رحمة اللّه.وقوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ} صفة، أو بدل من {الْخَرَّاصُونَ}.والغمرة: الشدّة التي تغمر الإنسان وتغطى على مشاعره، وتستولى على تفكيره، وهى من الجهل الذي يغمر صاحبه، ويغطى على عقله، وسمعه، وبصره.والساهون: الغافلون.فاللعنة واقعة هنا على الذين يلقون بالسوء من القول، ويرجمون الناس بالتهم جزافا، من غير تعقل أو تدبّر، شأنهم في هذاه شأن من غلب السكر على عقلة، فجعل يهذى من غير وعى. فهؤلاء الخراصون هم في سكرة من الجهل والغباء، إلى ما فيهم من عناد واستكبار.قوله تعالى: {يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ}.أي أن من ضلال هؤلاء الخراصين، ومن مقولاتهم الضالة الكاذبة، هذا السؤال الذي يسألونه عن يوم القيامة، سؤال المنكر له، المستبعد لوقوعه، المكذب به.. فيقولون: متى يوم الدين؟ كما ذكر ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى عن إنكار المنكرين للبعث: {مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} [25: الملك].. وقد عبر بالاستفهام عن الزمان بأداة المكان {أبان} للإشارة إلى أنهم ينكرون وقوع هذا الأمر، زمانا ومكانا، فلا يقع في مكان، أو في زمان.. وهذه مبالغة منهم في الإنكار والجحود.. وكأنهم يقولون أين هذا اليوم؟ إنه لا وجود له!.وقوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ}.هو جواب لهذا السؤال الإنكارى الذي سألوه بقولهم: {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ}.فكان الجواب: سيعرفونه {يوم هم على النار يفتنون} أي يحرقون فيها ويقلّبون على جمرها.وأصل الفتن، عرض الذهب وغيره على النار، ليظهر ما فيه من خبث.وقد عدل عن الخطاب إلى الغيبة، إبعادا للمشركين عن مقام الحضور، وطردا لهم من مقام أهلية الاستماع إليهم، والرّد عليهم.قوله تعالى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}.هو مواجهة لهم بالعذاب، ولقاء لهم بما يسوءهم.. أي يقال في هذا اليوم:{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} أي عذابكم الذي أعدّ لكم، وهو العذاب الذي يجزى به الذين فتنهم الشيطان، وأغواهم فكفروا باللّه، وضلوا عن سواء السبيل.فالفتنة هنا تجمع بين معنيين، بين الفتنة، أي الضلال الذي كانوا فيه، وبين الفتنة، التي هي النار التي تذيب المعادن، وتصهرها.. فهم فتنة في أنفسهم، ثم تلقاهم يوم القيامة فتنة، هي العذاب الذي يصهر به ما في بطونهم والجلود..تفسير الآيات (15- 23): {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)}.التفسير:قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}.هو بيان للجزاء الذي يجزى به الفريق الآخر، الذي يقابل فريق الخرّاصين المكذبين.. فقد جاء قوله تعالى: {وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} مبينا موقف الناس من الإيمان بالبعث والجزاء، وأنهم فريقان مختلفان، مؤمنون وكافرون، مصدقون ومكذبون.وقد جاء التعقيب على هذا، بما يلقى الكافرون المكذبون، من عذاب ونكال، فأخذوا دون إمهال إلى جهنم.ثم جاء بعد ذلك المؤمنون، المصدّقون بالبعث والجزاء، ففتّحت لهم أبواب الجنة، وسيق إليهم فيها ما تشتهى أنفسهم من نعيمها.وقوله تعالى: {آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ}.أي يتقبلون من ربهم ما يساق إليهم من ألطاف، وما يقدم إليهم من ألوان النعيم، مما لم يكن يخطر لهم على بال، أو يقع لهم في أحلام.وفى مدّ اللّه سبحانه وتعالى لهم يده الكريمة بهذا الإحسان، وفى تناولهم هذا الإحسان من ربهم- في هذا ما فيه من تكريم لا يناله إلّا المقربون، الذين رضى اللّه عنهم، جعلنا اللّه سبحانه وتعالى منهم، إنه ذو الفضل العظيم.وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ} هو بيان للأسباب والوسائل، التي توسل بها هؤلاء المكرمون من عباد اللّه، إلى هذا النعيم العظيم الذي هم فيه، وذلك أنهم كانوا قبل ذلك اليوم، أي يوم القيامة، وهو الدنيا- كانوا محسنين، فلقيهم اللّه بإحسان مضاعف، كما يقول سبحانه: {هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ} [60: الرحمن].قوله تعالى: {كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ}.هو بيان مفسّر لإحسان هؤلاء المحسنين.. فقد كان من إحسانهم أنهم يذكرون ربهم، لا يكادون يغفلون عن ذكره، ولا يعطون أنفسهم حظها من النوم.. فإذا نام الغافلون، قطعوا هم ليلهم ترتيلا، وتسبيحا، وصلاة، وذكرا.. والهجوع، هو النوم القليل، وهو ما يسمى بالغرار، كما يقول:{وما} في قوله تعالى: {ما يَهْجَعُونَ}.إما مصدرية، أي كانوا على حال قليل فيها من الليل هجوعهم. وإما موصولة، والمعنى: كانوا على حال قلّ فيها الزمن الذي يهجعون فيه من الليل.قوله تعالى: {وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} الأسحار، جمع سحر، وهو آخر الليل.استغفارهم في آخر الليل، الذي قطعوه تسبيحا وذكرا، وترتيلا وصلاة- إشارة إلى أنهم يرون أن ما قاموا به من تسبيح وذكر، وصلاة، وترتيل- لم يستوف ما للّه من حق عليهم، في عبادته وتسبيحه، فهم لهذا يستغفرون ربهم، ليتجاوز عن تقصيرهم في حقه.قوله تعالى: {وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} أي ومن أعمال هؤلاء المؤمنين المصدقين باللّه ورسوله، واليوم الآخر- أنهم يشاركون الناس فيما في أيديهم من مال، ويرون أن في هذا المال الذي أعطاهم اللّه، حقّا لكل محتاج، من سائل، يطلب، أو محروم يتعفف عن السؤال.قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ} مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنها تنعى على هؤلاء الضالين المكذبين، كفرهم وضلالهم الذي فوّت عليهم هذا النعيم الذي أعده اللّه للمؤمنين، وأنهم إذا كانوا قد استكبروا على أن ينقادوا لرسول اللّه، وأن يستجيبوا لما يدعوهم إليه من هدى- أفلا كانت لهم عيون تنظر في هذا الوجود، وتطالع ما فيه من آيات تشهد بما للّه سبحانه وتعالى من قدرة وسلطان، وعلم وحكمة؟إنه كما في يد الرسول آيات ناطقة بالحق، داعية إليه- كذلك هناك آيات أخرى في الأرض، وفى السماء، وفى كل ما خلق اللّه، تشهد بأن اللّه هو الحق، وأن ما يدعون من دونه الباطل.. ولكنهم لشقوتهم قد أصمّوا آذانهم عن سماع كلمات اللّه، وأغمضوا أعينهم عن النظر في كتاب الوجود، فكفروا، وضلّوا.. فكان مأواهم جهنم وساءت مصيرا.وفى قوله تعالى {لِلْمُوقِنِينَ} إشارة إلى أنه لا ينتفع بتلك الآيات الكونية، ولا يقع على مواقع الهدى منها، إلا أهل اليقين، الذين يطلبون العلم والمعرفة، بالبحث الجادّ، والنظر المتفحص، فإذا وقع لهم من ذلك علم، كان علمهم عن برهان وحجة، فيقع منهم ذلك العلم موقع التثبت واليقين.. فهم- والحال كذلك- لا يتّبعون الأهواء، ولا يتابعون أهل الضلال.قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} أي إذا كنتم أيها المكذبون الضالون، قد كلّت أبصاركم عن أن تنظر في صفحة هذا الوجود، وأن تمتد إلى أبعد من مواطئ أقدامكم، فإن ذلك لا يحول بينكم وبين الوصول إلى الدليل على قدرة اللّه وسلطانه القائم على الوجود، وإنه ليكفى أن تنظروا في ذات أنفسكم، فإن في أنفسكم عالما رحيبا، وكونا فسيحا.. وإنه ليكفى أن يقيم أحدكم بصره على مسيرته في الحياة، من وجوده نطفة إلى أن صار رجلا.. إنكم ستجدون في هذا سجلّا حافلا بالآيات الدالة على قدرة الخالق، وعلى حكمته، وعلى بديع صنعه، وحكمة تدبيره.والاستفهام هنا توبيخ وتعنيف، لهؤلاء الذي عموا عن مشاهد القدرة الإلهية، وآثارها الناطقة في كل ما خلق الخالق جلّ وعلا.قوله تعالى: {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ} أي، وانظروا في السماء، فهى أوضح صورة، وأجلى بيانا مما في الأرض أو في أنفسكم.. إن فيها أسباب رزقكم، وملاك حياتكم، بما ينزل منها ماء، وما يجرى فيها من شمس، وقمر، وكواكب، ونجوم.. بل إن فيها عرش اللّه، وفيها ملائكته، وفيها مقدّرات الأمور.. فكل ما يجرى على الناس وغيرهم من شئون، هو منزّل من علوّ. كما يقول سبحانه، {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً} [13: غافر] وكما يقول جل شأنه: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ} [2: النحل].. والتنزيل لا يكون إلا من جهة عالية.. فالسماء هنا، إشارة إلى جلال اللّه، وعظمته، وعلوّ مقامه، وقيومته على هذا الوجود.قوله تعالى: {فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} بعد أن أقسم اللّه سبحانه وتعالى ببعض مخلوقاته، توّج هذه الأقسام جميعها بالقسم بذاته العلية جلّ شأنه، واصفا ذاته الكريمة، بأنه رب السموات والأرض ومدبّر أمرهما.. والمقسم عليه هنا، كلّ ما وقعت عليه الأقسام السابقة، من صدق ما يوعد الناس به من بعث ودينونة، وحساب وجزاء، وما جاء من أخبار عن نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، ثم ما أخبر به جل شأنه، من أنه المالك للأرزاق، والمقدّر لها، كما أنه مالك يوم الدين، وما يلقى الناس في هذا اليوم.فهذا كله حقّ لا امتراء فيه، وهو واقع كما أخبر به الحقّ جلّ وعلا، على سبيل القطع واليقين.وقوله تعالى {مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} صفة لمصدر محذوف يقع مفعولا مطلقا لصفة محذوفة أيضا لخبر إن، والمقام دالّ على هذين المحذوفين والتقدير:فورب السماء والأرض إن ذلك كله لحق واقع وقوعا مماثلا لوجودكم الذي أنتم عليه، والذي لا يمكن أن تنكروه.. وهل ينكر الإنسان وجوده، وهو حى ناطق؟واختيار النطق صفة دالة على وجود الإنسان، لأن المنطق هو الصفة المميزة للإنسان عن عالم الحيوان، ولأن النطق كذلك يدلّ على أن وراءه إنسانا ذا حس وإدراك، وأنه إذا غابت عنه المحسات والمدركات، فلن يغيب عنه الإحساس بوجوده، وإدراك أنه موجود.أخرج ابن جرير، وابن أبى حاتم عن الحسن أنه قال: بلغني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: «قاتل اللّه قوما أقسم لهم ربهم ثم لم يصدّقوا» وروى عن الأصمعى أنه قال: أقبلت من جامع البصرة، فطلع أعرابى على قعود، فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بنى أصمع، قال: من أين أقبلت، قلت من موضع يتلى فيه كلام الرحمن قال: اتل علىّ، فتلوت والذاريات فلما بلغت {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ} قال: حسبك.. فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسر هما، وولىّ.يقول الأصمعى: فلما حججت مع الرشيد، طفقت أطوف، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق، فالتفتّ، فإذا بالأعرابى قد نحل واصفرّ، فسلّم علىّ، واستقرأنى السورة، فلما بلغت الآية: {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ}.صاح، وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّا.. ثم قال: وهل غير هذا؟فقرأت: {فَوَرَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} فصاح وقال: يا سبحان اللّه، من ذا أغضب الجليل حتى حلف؟ لم يصدّقوه يقوله حتى ألجئوه إلى اليمين؟ قالها ثلاثا، وخرجت معها نفسه!!.
|